تنافقوا حتى تتبيّنوا الخيط الأسود

بقلم سعد برغل

بدأت الكتابة في الجرائد وبالمواقع منذ أكثر من عقد ونصف العقد، ولم أتصوّر يوما أني سأكتب تحت ضغط الحدث أو  سباقا مع قلم آخر لم أتّفق معه، فالبلاد رحمة و لنا الصحراء على امتدادها يمكن أن نأوي إليها إذا ضاقت بأنفسنا القدرة على تحمّل ما يقول الآخر أو ما يكتب الآخر، 

ولكني خلال الأسبوع الفارط قاومت رغبة شدة في الكتابة بمناسبتين؛ مناسبة أولى أصبحت البلاد تتنفّس "زطلة"، فالكل أصبح مع قانون 52، والأغرب أنّ البعض ممّن أعرف كان قبل أيّام يعدّد محاسن تغيير القانون بما يسمح بتهيئة السجون للإرهابيين والضرب الشديد على أيدي المروّجين، ولا أحدّثكم عن الإسهال الذي سمعته حول ضرورة التخفيض من العقوبة فهم شباب وصغار سنقضي على مستقبلهم والرّدع السجنيّ ليس هو الحلّ وعلينا نحن " النخبة" أن نؤمّن لهم الرعاية والإحاطة حتى لا يسقطوا في بؤر التوتر الديني والزطلة.

تابعت مواقف الكثير حول هذه المسألة وتابعت استغراب بعض " الحداثيين" من دعوة رئيس الجمهورية مجلس الأمن القومي لتدارس هذه الظاهرة، وهو ما يكشف أنّ مفهوم الأمن القومي ما يزال في مستوى الأربعينات من القرن الفارط، يعني داخلية وحرسا وبوليسا وجيشا، ولست أعرف هل الجماعة على علم لأنّ أخطر ما يجب أن يتدارسه الأمن القومي الوطني عالميّا هما الأمن القومي البيئيّ والأمن القومي المائيِّ ومعهما يمكن إدراج الزطلة باعتبارها على صلة بالشباب الذي خابت آماله في ثورته وباعتباره جزءا من نتائج البطالة المتزايدة والمستفحلة وباعتباره جزءا من الشعور بالحقرة والدونية وباعتباره جزءا من توتّر العلاقات الأسريّة وباعتباره جزءا من انصراف الوالدين وراء الخبر المرّ الحافي. الزطلة بمدارسنا ومقاهينا وجامعاتنا وشوارعنا وحاناتنا وفنادقنا وبغرف نوم أبنائنا وبناتنا لا يمكن النّظر إليها إلا أنّها جزء مهمّ من الأمن القومي التونسي، وإذا تمادى البعض في طلب الزجر السّجني، فقد استغربت صمت اليمين من مشتقات الإسلام السياسي عن المخدرات والزطلة، وتساءلت ألا يعود الأمر إلى عدم وجود نصّ يحرّمها، وهو ما يجعلهم ينشطون نشاطا كبيرا في تتبّع الخمر بيعا واستهلاكا في حين يخرسون عمّا هو أخطر، ألا يفسّر انتشار زراعة المخدرات بباكستان وافغانستان وجنوب لبنان واليمن تحالف الإخوان والقاعدة مع مروّجي المخدّرات باعتبار انعدام النّص التحريميّ.

مناسبة ثانية استفزّتني للكتابة، وضبطت نفسي حتى لا أكتب حرفا، هي هذا الظهور المتعاود لحرّاس المقدّس باسم المقدس وحالات الاعتداء الغريب الذي يتعرّض له المبدعون مع هؤلاء المتنفسين اقتناعا بأنّهم خلقوا  أقوياء ليدافعوا عن ربّ ضعيف، لكنهم لا يتحرّكون أمام الارتفاع الصاروخي للأسعار، لا يتحرّكون عندما غمرت المياه صفاقس، وشردت الثلوج أبناء الشمال، لا يتحرّكون عندما يسقط جنودنا بفعل بنادق الغدر التي زرعوها بمساجدنا، لا نسمع صوتهم في المراحل المفصلية اجتماعيا، ننتبه إلى وجودهم وعنفهم ودمويتهم وتسلطهم وتخلفهم عندما تقترب انتخابات، فيبحثون عن" بيرسيبوليس" أو عبدلية1 وهاهم اليوم يبحثون عن عبدلية 2 بمناسبة اقتراب الانتخابات البلدية.

لهؤلاء الحقّ أن يرتعوا فهملا يعرفون تاريخ الأدب العربي وما تضمّنت أشعاره من آيات، ولا يعرفون الموشحات الأندلسية وما حفلت به من آيات ولا يعرفون أنّ العربية سابقة عن القرآن، و لا يعرفون ما طرح المفسرون القدامى في مسألة الوحي والتنزيل، لهم الحقّ فلولا خدمتهم للإسلام السياسي وانخراطهم في قذارته لما تجرّأ أحدهم ونطق خلفا، ولولا اقتناعهم أنّهم سيفلتون من العقاب لما تجرّؤوا، لكن هذا الزمان ما يزال يحتاج وقتا كثيرا حتى نتبيّن الخيط الأبيض من الأسود وعندها سيعرف الكهنة أيّ سعير هم له وقود.