خطاب الجنون

بقلم سعد برغل

كثرت في الآداب العالمية التسميات التي تسم فاقد العقل بالمعيار الاجتماعيّ للعقلانيّة، فهو المجنون وهو البهلول وهو المعتوه وهو الأحمق بدرجة أقلّ ، وهو المجذوب في عرف المتصوّفة وهو الّسفيه بالمعنى التحجيري الدّينيّ، وهو مجنون القرية في بعض الروايات، وترى شعوب  أخرى في جحا شكلا من أشكال التمرّد الفرديّ على المعيار الاجتماعيّ، مجنونا عاقلا ذكيّا.

بهلول القرية أو مجنونها هو حافظ أسرارها، هو العارف بكلّ ما يدور، بل إنّه في روايات الطاهر وطّار الجزائري الفاعل الحقيقيّ لكثير من الحكايات، يحفظ أسرار النسوة وتتمرْن الفتيات على ممارسة الجنس ومعرفته بواسطة الاختلاء به، ولذلك ليس فريبا لأن يرى ابن خلدون في البهلول مثلا " العزيزالجامع لكلّ خير، والحيّي الكريم" وهو ما يفسّر كذلك قول الجاحظ " وقد يأتي لهؤلاء المجانين كلام نادر محكم لا يُسمع بمثله، كما قالوا: ربّ رمية من غير رام".

ومن هذا الباب التراثي نفهم سرّ الولع بالتأليف في المهابيل من نوع" أخبار الحمقى والمغفلين " لابن الجوزي، وكتاب "العقلاء المجانين" للحسن بن حييب النيسابوري، وكتاب " العقد الفريد" لابن عبد ربّه الذي حفل بأخبار المجانين وتتبّع حكاياتهم، وهو ما يسمح لنا بتدبّر علاقة خطاب الجنون بالبيئة الثقافيّة والعقديّة للمجتمع العربي الإسلاميّ، الذي لم يعرف عزل المجنون بل عرف تغريب المخالف وإبعاد المفسدين، لذلك لم يكن غريبا أن يوفّر للمجتمع للمجنون الحقّ  في الوجود الاجتماعيّ ضمن نسق القبيلة وهرميّة الفعل الاجتماعيّ لكنّه يُرغم بأحكام فقهيّة المثقفين المعارضين لأنساق السلطة الدينيّة والسلطة السياسيّة على التهجير ومن أشهر هؤلاء الحكم بنفي بشاربن برد لقصيدة بنت عشر وثلاث.

كما تعاملت مدوّنة الفقه مع المجنون باعتباره قاصرا، مثله في لك مثل المرأة والصبيّ فلا يُعتدّ بشهادته ولا يتولى القضاء ولا قيادة الجيش، لكنّ هذا الإقصاء قابله رفض شديد من المدركين لخطاب الجنون، وما كثرة المصنّفات في المجانين وتتبّع حكاياتهم إلاّ دليل على محاولة الكتّاب كسر هذا الحاجز الثقافي الذي يجعل المجنون في درجة أقلّ من العاقل إلى حدّ الكتابة في مآثر الحكمة التي تصدر عن المجانين، وجمع دواوينهم مثل مجانين بني عامر، وهو ما يجعل خطاب المجنون العاقل خطابا يقف ضديدا لصوت العقل في الثقافة، ويتحوّل الخطاب إلى صراع على سلطة امتلاك الفضاء العمومي، بين سعي إلى العزل بواسطة مدوّنة الفقه والقانون والانخراط في الصوت الاجتماعيّ إلى درجة اعتبار المجنون في المسلسلات هو العارف الوحيد بالعلاقات الآثمة والمشبوهة أو بحالات القتل خاصّة مع المسلسلات المصريّة.

خطاب الجنون هو حالة سلطويّة فرديّة تقف بإزاء حالة سلطويّة قانونيّة، فالمجذوب في حفلات التصوّف ارتقاء بالجذب إلى المستوى الأرقى، هو خروج العقل وانفلاته من حكم الماديّة الجسديّة إلى حالة من الاتحاد، خطاب يجعل من المجنون هو القادر الوحيد على الوقوف في وجه المستبدّ ولنا في حادثة ميمون البهلول مع الحجّاج دليل على انفلات خطاب المجنون من آليات التحكّم العقلاني الذي تمارسه سلطة الخطاب العاقل،  ويخترق خطاب المجنون أسوار القصور حتى يُبلغ صوت الشّعب، لذلك كلّما أراد شعب إبلاغ موقفه إلى القصر ودوائر السلطة أطلق العنان لمجانينه، وأسند إليهم اقوالا ومواقف، وليس على المجنون حرج، لهذا نشأت حول مجانين بعض القرى أساطير في الحكاية العقلانيّة ولنا في مجنون صيادة أبهى مثال، مثل قوله في زمن بن عليّ" عدّمها واللّي عدّمها صنايعي"، وتقول كتب التأريخ، كان أحمد  ابن طولون الحاكم بأمره يزور "المستشفى يوميّا، وفي يوم من الأيّام طلب أحد المجانين رمّانة فأمر ابن طولون بإعطائه ما طلب، فأخذها ذلك المجنون وقذف بها ابن طولون، ما أوتي من قوّة ممّا جعله يقلع عن زيارة المستشفى بعد هذه الحادثة".