فليّس مع فليّس يساوي فليّس

بقلم سعد برغل

كثيرا ما أجد نفسي بين الموقف ونقيضه،  بين الرأي والرأي الآخر، كثيرة هي المرّات التي أخشى على عقلي من الوقوع في التناقض إلى درجة أنّي بدأت أفضّل الصّمت  وعدم الخوض في مسائل يتحدّث فيها الجهلة أكثر من العارفين بخفاياها، وكثيرا ما أتحرّج عندما يجالسني بعض روّاد مقهاي ويطرحون عليّ أسئلة منتظرين منّي إجابة، وفي مرّات كثيرة ، كنت أجيب بما وسعتني المعرفة، لكنّي بعد مدّة بدأت أتهرّب من الإجابة إمّا بالصّمت أو ادّعاء عدم معرفتي بالأمر.

لَك، وأن تقرأ الآن، أن تتساءل مثلا لماذا انقسم التونسيّون منذ تلك الثّورة البعيدة شيعا ومللا وأحزابا ونِحلا، ولماذا شيطان الأمس حليف اليوم، ولماذا كافر الأمس مثال الاستقامة اليوم، ولماذا خائن الوطن أمس أمين البلد اليوم، ولماذا ضارب المتظاهرين أمس حليفهم اليوم، ولماذا ضارب الرّشّ أمس مندّد اليوم بالتدخّل العنيف للأمن، ولماذا رافض القرض للخارجيّ بالأمس مستقبل الهبات القطريّة اليوم، ولماذا من سنّ امتيازات رئيس الدولة بالأمس يتصايح اليوم مندّدا بالتبذير؟ ولماذا من فتح ذراعي الناتو و"أصدقاء سورية"بالأمس يتباكى اليوم على اللاّجئين السّوريّين؟ ولماذا سَفه من وعد بعدم التالف مع النهضة أصبح بقدرة قادر، اليوم، في ركاب النهضة حليفا وفيّا؟ ولماذا لم يتكلّم صحفيّ بقناة ما أمس عن خيانات مؤتمن ومصاريف بالشيراتون ونطق محاسبا ضيفا على تهمة ببلد له توازناته القوميّة؟ ولماذا تناحر أعداء الأمس ممّن جمعتهم يافطة" الديمقراطيّة" واجتمعوا اليوم سرّا أو علانيّة مع "أعداء الديمقراطيّة"؟ لماذا صوّت النقابيّون جدّا أمس للنداء وللباجي ويتزايدون، اليوم، على الدعوة للإضراب و"إسقاط" ناجي جلّول بدعوى انحيازه إلى البورجوازيّة؟.

قد لا يجد المواطن العاديّ إجابة مقنعة، وربّما لا يعني المواطن أصلا  ما يحدث في كواليس السياسة وارتهانات الأحزاب لمقتضيات المرحلة، مما لا يعني الناّس كثيرا، التّنديد باعتداء "الصحفيّة" " بيترا لازلو" على لاجئ سوريّ، اعتداء لعبت فيه الصدفة دورها، فكم من لاجئ وقعت إهانته وضربه وشتمه بعيدا عن التوثيق ومرّ ولا ردّ فعل، هذا المواطن العاديّ جدّا يفكّر الآن في العودة المدرسيّة وما صاحبها من غلاء أسطوريّ لمستلزمات الدّراسة، ومنشغل بالعيد، يتحسّس جيبه ولا يعرف له قرارا: أيشتري خروفا تأكيدا لتقليد اجتماعيّ أكثر منه دينيّ، وفي المخيّلة الجماعيّة والاجتماعيّة والذّهنيّة الرّمزيّة ويكون معها الخروف مجرّد تأكيد لانتماء اجتماعيّ، لا يعرف هل يدفع تلبيّة لضرورة العلم والتّمدرس أم لضرورة المخيال والإرث والموروث والمتوارث، مواطن نسي طعم لحم الخروف وماعادت زوجته تعرف استعمالاته في الطهي العائليّ يجد نفسه اليوم بين شواء اللحم أو الاكتواء بثمن الشّواء، بين العلم والمعرفة أو المعرفة بأنّ السبيل قد ضاق على المعرفة.

سألتني عجوز بالحيّ منذ أيّام عن موقف السياسيّين من أحلام المواطن البسيط، واستغربت كيف يمكن للسياسيّ أن يتكلّم ساعات عن "قفّة الزّوالي" وهو يدافع عن حقّ الأغنياء في الإفلات من العقاب؟ كيف يمكن للسياسيّ أن يحتج على تردّي الأمن بانعدام العقوبة أو تطبيق العقوبة في الوقت الذي ينادي فيه بعدم احترام منع التّظاهر؟ كيف يمكن أن تستعيد الدّاخليّة عافيتها في الوقت الذي يفرض السّاسة عليها التّراخي وغضّ الطّرف عن دعواتهم بضرورة التّظاهر رغم حالة الطوارئ؟ عجوز حيّرتني فلم أجد إجابة، تسأل في حسرة" نِسمع في واحد في مجلس النواب يدعو إلى ثورة وإلى النزول للشارع"، وأضافت أنّها لم تفهم ماذا يفعل بالمجلس إذا كان مؤمنا بأنّ التغيير يكون بالقوّة وبالشّارع؟

أنا منذ مدّة بدأت أتساءل خفية وبصوت منخفض، فحرّاس النّوايا عادوا من جديد للاستماع إلى خرير المياه وحفيف الشّجر، كان النّاقد "المعارض" سابقا هدفا للبوليس وتحوّل اليوم هدفا للبوليس ثالثا ولليسار ثانيّا ولليمين أوّلا، فأن تطالب بتأجيل مظاهرة أو اعتصام أو إضراب فإنّك سندخل قائمات ثلاث؛ واحدة يكتبها البوليس غير السرّيّ وثانيها يكتبها حرّاس النوايا والأخلاق وشرطة القيَم  ويكتب الثّالثةَ من يملكون صكوك الوطنيّة والانحياز إلى الفقراء وقفّة الزّوالي، لهذه الأسباب مجتمعة أقول: لن تفلحوا اليوم كما لم تفلحوا بالأمس لأنّ التونسيّ مؤمن بالمثل " من مرقتو بابن عشاه".