لبنان من السهل إلى الجبل

بقلم سعد برغل

عندما حطّت بنا الطائرة بمطار رفيق الحريري الدولي، طبعا بعد تأخير دام قرابة السّاعة، كنت أنظر إلى المسافرين الذين تجمّعوا بانتظار الحقائب، عرب على هنود على أوربيين على أمريكيّين، 

كانت الفضاء يعجّ بألسن متباينة جمعها لبنان، كنت أتساءل عن حظّ السياسة من التقاء هذه الملل وعن حظّ الدين في هذه الملل وعن حظّ الاقتصاد فيها وعن حظّ الثقافة فيها، بلد جبران خليل جبران وايليا أبي ماضي، وفيروزيات القرنين، وجبل صنين والسيدة مريم وتاريخ ببيروت المقاومة من صبرا وشاتيلا إلى برج البراجنة إلى البقاع وزحلة وصور وصيدا، تاريخ من الحرب الأهلية دمّرت البلد والعباد وتاريخ من التطاحن الشيعي السني المسيحيّ ببلد لا يحتمل أكثر من غناء السيدة فيروز بقصر بعبدا الأثري أو صرخات مهجّرين مسيحيين من جبل صنّين إلى قرى النّبع اللبنانيّة.

كانت أسئلة كثيرة تتزاحم بالذهن عن بلد قرأت عنه الكثير وحلمت بزيارته، أذكر أن يوسف ادريس حدّثني ذات مرّة عن دار الآداب التي تنشر درر الروايات العربية والدواوين، ذكر أنّ بيروت المقاومة تحت القصف الاسرائيليّ كانت تطبع تلك المنشورات في الأقبية والمخابئ لذلك لم تؤثر الحرب العربية الاسرائيليّة في حركة النّشر، وذكرت أحلام مستغانمي أنّ بيروت بلد العالم، يكفي أن تحطّ بها الرّحال حتى تدرك أن تنوع العالم إغناء للبشريّة، لبنان هذه أعرفها من خلال قصائد مظفر النواب عن المقاتل العربيّ ، تلك القصائد التي أرّخت لاكتساح بيروت وحكايات عبد الله الإرهابيّ، كانت لبنان بذهني  خلال انتظار الحقائب لبنان الكتائب والحزب القومي السوري ووليد جنبلاط وآل جميل من بيّار إلى جميل، بذهني بيروت الغربيّة وبيروت الشرقيّة، بيروتان ببلد واحد تقاتلا حتى غطّى الدم كل عائلة، تحالف السياسيون مع جيش حافظ الأسد حتى أصبح هو الحاكم الفعليّ لسوريّة ثمّ انسحب الجيش السوري ليحلّ محلّه الجيش اللبناني ويظهر حزب الله، حزب المقاومة الإسلاميّة بلبنان.

لبنان التي أعرفها بالكتب ومن خلال تصفّحي النات سقطت منذ اللحظة الأولى، وليس الخبر كالمعاينة تقول العرب، بدأت سلسلة زياراتي الثقافيّة إلى لبنان مع صديق لبناني، كان بيننا طالب طبّ لجأ إلى تونس  هربا من الحرب الأهلية للبنانيّة، قضّى ما يناهز الثلاث عشرة سنة معنا، كوّن صداقات تونسيّة كبيرة ومتنوّعة؛ كان سعد واحدا منّا، يجالسنا، يخالطنا، ثمّ زحف معنا نحو الإنتاج الإذاعيّ، ومن يومها لم تنقطع علاقته بتونس وبنا، استقبلني بطرابلس كأبهى ما يكون الاستقبال، كانت فرصة للوقوف على بعض المناطق هناك ولعلّ ما شدّ انتباهي بطرابلس أمر تختلف فيه عن مدينة بيروت وضواحيها اختلافا بيّنا، هو النظافة بمدينة طرابلس، مدينة فسيحة متناسقة ذات طرقات واسعة، تعترضك البسمة كلّما سألت، طرابلس لبتي تشقّها بالسيارة وتقف على هول الخراب الذي لحق المعمار والنفوس جرّاء الحرب الأهلية، عمارات ومبان خرّبتها المدفعيّة و الرصاص ، تجبرك رغما عنك على تخيّل فظاعة التصفية الجسديّة للهاربين من جحيم تطاحن أهليّ غذّاه السياسيّون واكتوى بناره شعب بأسره، فقد عرفت لبنان في تلك الحرب أسوأ حالات الهجرة إلى السويد وافريقيا وسورية ، هرب الشعب اللبناني من التقاتل وبقي السياسيون، وانتهت الحرب وأصبح أعداء الأمس أصدقاء اليوم، وتواصلت غربة من قذفت بهم الحرب بعيدا، وبقي السياسيون ينعمون بالقصور، فلم أمرّ بمنطقة إلاّ وعرفت فيها قصر سياسيّ، لا يحتاج الأمر عناء كبيرا اذ تستقبلك لافتة كبيرة تعلن أنّك بحرة قصر فلان زعيم الحزب الفلاني.

بقي أمر من الضروريّ أن أشير إليه في هذه الورقة الأولى، طرابلس عندما تدخلها من قسم الميناء البحري بها تختلط عليها وجوه شبهها بمناطق بحرية بتونس، مقاه على طول الطريق السياحيّ، ومطاعم ذات أكلات عالميّة، شبه يجعل المكان قريبا منك ومن نارجيلتك وقهوتك العربيّ، لكنّك عندما تريد أن تتعرّف على الطبق الطرابلسيّ، تكون بحيرة كبيرة، فمضّيفي سعد أرهقني بعدد الأطباق وفي كلّ مرة يقدّم لي محاضرة حول فوائد الأكلة اللبنانيّة ومكوّناتها ومزاياها الطبيّة، حتى تحوّل الغداء معه ضربا من ضروب انتروبولوجيا المطبخ اللبناني بأسرار المالح منه والمسكر، لكنّ هذا المطبخ على لبنانيّته الظاهرة هو مطبخ شاميّ عامّ يدلّ أنّ تاريخ لبنان ما يزال تاريخ الهلال الخصيب من فلسطين ولبنان وسورية والأردن، تاريخ يختزله المطبخ اللبناني الذي يحوي كلّ خصوصيات طبخ تلك البلدان.