"بلقيس" البلجيكيّة

بقلم سعد برغل

عدت، يا سادة يا مادة، من بلاد الافرنج، كما يطلق عليها رحّالتنا القدامى، عدت من بلجيكا، بعد مشاركة في ندوة علميّة، كان لنا نحن أبناء هذا البلد  شرف الإسهام فيها مع زملاء من كليّات كثيرة، قلت عدت، يا سادة يا مادة، ولن أتحدّث عن بلجيكا التي بدأت تستعيد عافيتها رغم تدمير إخوان الشيطان لها ورغم خيانتهم للشعب الذي آواهم من بطش وأطعمهم من جوع. سأكتفي بالحادثة التالية وأمرّ إلى بلدي هذا الذي تناهشه سمّار الليل بالعُلب الليليّة:

كنت أبحث مع غيري عن المسلك الذي يجب أن أتبعه لألتحق بقاعة الانتظار بمطار "شالر لوروا" ، اعترضتنا موظّفة بلجيكيّة تشرف على تفتيش الحقائب، سألتنا عن وجهتنا؛ قلت تونس، تبسّمت، اعتدلت، نظرت إليها في حنان وقالت:" أحبّ تونس، زرتها منذ سنتين، هي بلد مضياف". كنت أستمع إليها وألعن تجّار الدين الذين دمّروا بلدانهم وكلّ بلد آواهم فقد وقفت قبل ثلاثة أيام بالساحة الكبرى على كمّ الورد الذي أهداه كلّ من زار بروكسيل لروح المقتولين غدرا باسم نصرة الدين.

بلجيكا حكاية وسائل النقل التي أذهلتني بدقة مواعيد انطلاقها، حافلة كانت أو مترو أو قطار، ويأخذك الصمت وأنت تقرأ التنصيص على الدقيقة التي ستبلغ فيها مدينتك، ولما تبلغها عدّل ساعتك ودقائقها على ما طبعت الآلة ولا تخجلنّ من الإقرار أن ساعتك بها عطب وأن حاسوبك المحمول مخطئ في التوقيت، فالتوقيت لا يعترف عندهم بما نعرف منذ عهود" كار العشرة أمتى تجي؟".

بلجيكا حكاية ندوات وانضباط في توقيت الافتتاح بلا مكياج سياسي ولا برتوكول حزبي أو سلطويّ، تحضر كل ّ الجلسات وتعترف رغم أنفك أنّ لهؤلاء الناس سعة صدر ورحابة عقل كبيرين؛ ينقدون في اعتذار حييّ، ويناقشونك مناقشة باحث عن المعرفة لا مدّع معرفة، تنتهي المناقشات وتدعوك اللجنة لاستراحة قهوة، تخرج تتناول ما تيسّر بلا زحمة ولا ضجيج فلا أعوان يزاحمون ضيوفا ولا طلبة لم يحضروا الندوة يتزاحمون لتناول ما ليس من حقّهم ولا أساتذة لم يحضروا الندوة يعترضونك بالمطعم بالجناح المخصص للأساتذة الندوة، بلجيكا ضربها الإخوان، لكنّها ماتزال بلد المتاحف وبلد التنصيبات وبلد الماء المتدفّق، وبلد الرذاذ والثلج والمطاعم الفاخرة المفتخرة بمنتوجات بلجيكا وفنّ الطبخ البلجيكي.

لن أحدّثكم عن بلجيكا واللعنات التي لاحقت الإسلاميين مع كلبة الأمن التي دارت بيننا في الحافلات واشتمت أرجلنا وما بين أرجلنا، كلبة قدّمها لنا ضابط المخابرات باسمها" بلقيس"، كانت تقطع الحافلة وتتشمم كلّ الحقائب وكلّ الراكبين، كانت أكثر وفاء لبلد يطعمها ولسيّد ينظفها من إخوان بلجيكا ومن داعشيّي بلجيكا ومتأسلمي العالم الذين خانوا اليد التي أطعمتهم،  كلبة بألف منهم، وفاءً،.

بتونس، بهذا البلد الذي نحبّه، لافتات نرفعها في كلّ مناسبة" الإسلام في خطر" لأنّ جامعيّة طالبت السيد وزير التربيّة بعدم فتح فضاءات المدارس لتحفيظ القرآن الكريم، إلاّ بعد تأهيل من سيقومون بذلك، بتونس وجدت بروفيلات التونسيين والتونسيات تصرخ "حلب تحترق"، ولم يتساءلوا؛ متى بدأ احتراق حلب؟ ومن بدأ عمليات حرق حلب ودمشق وادلب واللاذقية وطرسوس ودمشق وسنجار والموصل والرمادي والبصرة؟ أين كان أولاد مفيدة عندما دمّر الدواعش وقتّلت النصرة وسفكت القاعدة أبرياء العالم والشام؟  ألا يعرف هؤلاء أنهم يناصرون القتلة ويشرّعون للقتلة، فلتحترق ألف حلب، وستنهض من رمادها ومن ترابها ومن حرقها،ومن بين أنقاضها ستنهض، بهيّة، شامخة، صابرة، وستقاتل من قاتلها وستصلب من صلبها واغتصب صبياتها وباعهنّ في سوق النخاسة عملا بآية أو حديث أو فتوى في كتاب أسود كقلوبهم.

عدت إلى تونس، ورأيت بلدا أفلح في استصغار مثقفيه وفي إهانة جامعييه، وفي التطاول على إعلامييه، بلد يصرخ فيه النقابيّ مهدّدا وزيرا باسم الثورة، ويتطاول فيه غبيّ جاهل على جامعيّة، ويرسل الآخرون تهديدات إلى جامعية بلغة ركيكة مليئة بالأخطاء منددّين برفضها تعليم القرآن بمدارسنا والحال أنّه يساعد على الحفظ وامتلاك ناصية اللغة وحذق العربيّة، بدليل كمّ جهلهم وأخطائهم.