على هامش "الكتاب الأسود": في دلالة الأبيض والأسود


: مقال رأي بقلم منصف الوهايبي
على هامش "الكتاب الأسود": في دلالة الأبيض والأسود
إنّ اللون في حدّ ذاته محايد. إنّما المجتمع هو الذي يسبغ عليه معنى أو دلالة. ومن ثم يكتسب اللون رمزيته التي تختلف باختلاف المجتمعات. وفي هذا ما يؤكّد أنّ الفرد لا يرى بعينه بقدر ما يرى بعيون المجتمع الذي يعيش فيه حتى الأعمى كما يقول روجيه باستيد، لا يُستثني من هذه الظاهرة، فصوت محدثه الحاد أو الأجش، يثير في نفسه؛ إذ يدرك أنه موضوع نظر، ردودا واستجابات غرزها المجتمع فيه. وهي عادة ردود واستجابات خاصة بعالم المبصرين، حيث لا قيمة للألوان إلا من حيث هي حاملة لرسالة أو مشحونة بمعنى، وليس من حيث هي مجرّد ظواهر بصرية.
يتميّز في موروثنا إلى جانب الأخضر لون الحياة ورمز الخصب والنسغ والماء، والأصفر رمز إكسير الحياة والتغيير والحدس، "لونان" هما الأبيض والأسود. ولا غرابة فهما في الموروث الصوفي خاصّة والموروث العربي الإسلامي عامّة عنصران رئيسان من عناصر الجمال يحيلان باستمرار إلى صورة الحور العين القرآنية. ويتضايفان ويتكاملان، ليس بسبب تضادّهما الذي يظهر جمال كل منهما كما دأب على ذلك الشرّاح والمفسّرون، وإنما لما ينطويان عليه من رمزية دينيّة ثقافية عميقة. فالأبيض ليس مجرد لون. بل هو ليس بلون أصلا، وإنما هو خلاصة الألوان كلّها. وكلمة بياض تشمل في المرموز الثقافي العربي المجسّدات والمجرّدات معا: الحليب والماء والنهار والضوء والقمر والعين والقلب والسيف. واليد البيضاء (الأيادي البيض) هي يد الإحسان والنّعم والقدرة. والموت الأبيض هو الفجأة والسّهل والرّجل الأبيض هو النقيّ العرض وبيّض صفحة: كتبها بفنّ وعناية. والقلب الأبيض هو البريء الطاهر. وبيضة النهار: بياضه. وبيضة الخدر جاريته..
أماّ الأسود ـ وهو ليس بلون أيضا ـ فيحيل على هذه المادة التي تجعل من اللون احتفاليّة تتراسل فيها الحواسّ وتتشابك، ومتعة للعقل والقلب معا فالعيون السّود والشّعر الأسود من سمات الجمال المميّزة التي تستدعي لطافة السّريرة وغموض المجهول وخلوة الليل وطمأنينة الرّوح. والحبر الأسود هو الذي يثبّت الفكرة والعاطفة الجياّشة على الصّفحة البكر البيضاء ويسبغ معنى على المادة الغفل، فيثير حلم المسلم ومخيّلته، إذ يدوّن اللامادّي ويثبّته، فيخفي ويظهر، ويكتم ويفصح، عبر ثنائية من التيه والعودة، مثيرة. وهو، إذا استعيرت عبارة باشلار في النار يحوّل المثالي إلى مادّي، والمادّي إلى مثالي . إنّه "لون" سحريّ مفتوح على المطلق، يحيل على نفسه مثلما يحيل على ألوان أخرى، فالسّواد (بالضم) هو الصّفرة والخضرة أيضا. وهو ذو رمزيّة دينيّة عميقة، فالكعبة الملفوفة بالسّواد والحجر الأسود يمثلان ذروة المقدّس الإسلامي . كما أنّه، في العرفان الصوفي، رمز الجسم في كثافته وبعده عن عالم القدس ونذير الموت والفراق.
لكن لو تـمثّلت أنا (منصف الوهايبي) /الآن (الثامنة صباحا ،الأربعاء 11 دبسمبر 2013)/هنا (بيتي في الطرف الجنوبي من القيروان) بالطّاولة التي أجلس إليها وأكتب عليها: ما لونها؟ أظنّه الرّمادي أو لأقل إنّه بين الأحمر والرّمادي. بل يتهيّأ لي أنّه يتغيّر باستمرار، حسب الضّوء الذي ينير لون الطاولة؛ وهو ليس إلاّ ضوء الشّمس متسلّلا من النافذة المفتوحة. ضوء لا هو بالأبيض ولا هو بالأصفر، يكاد لا يوفّر لي سوى الحدّ الأدنى من درجات التّمييز الإدراكي.. وإذ ألتفت ناحية حديقة بيتي الصغيرة، وأنظر إلى شجرة البنفسج تارة، وإلى البرتقالة تارة؛ فقد أسأل: بأيّ اسم كان علينا أن نناديك، أيّها البنفسجي؛ لولا زهرة البنفسج؟ بأيّ اسم كان علينا أن نناديكأيّها البرتقالي، لولا شجرة البرتقال؟
ولا أظنّ أنّ من فكّر في هذا "الكتاب" أو "الكنّش الأسود"، كان يرى حقا، في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى الوحدة حتى نحمي بلادنا من الأخطار التي تتهدّدنا، وتتربّص بنا جميعا.



