وجوه من المشهد الإعلاميّ

سعد برغل

لا أعرف من قائل"  الشعوب التي لا تملك وعيا قد تصبح يوما قطيع غنم يسوقه إعلام لا يملك ضميرا"، قلت لا أعرف صاحبها، لكنّي مقتنع تمام الاقتناع بصحّتها، قولة أرسلها لي أخي الأكبر دون صباح الخير ولا تعليق منه ولا إضافة، فقط هذه القولة.

أعرف منذ الثورة مواقف أخي من المشهد الإعلاميّ وأعرف كذلك إبحاره المطوّل بالمواقع الإخباريّة وولعه الشديد ببعض الجرائد الالكترونيّة، كنت أختلف معه كثيرا في تقييم أحزاب الإسلام السياسيّ بتونس سواء النهضة  أو التّحرير أو السّلفيّين، كان يلوم عليّ حدّة لهجتي في نقدهم الذي يبلغ أحيانا حدّ ترصّد جزئيّات لا قيمة لها، وكان في كلّ مرّة يحمّلني مسؤوليّة ما يراه اعوجاجا إعلاميّا مهنيّا أو دي انطولوجيّا تأباه المهنة وضوابطها.

كانت المسألة محصورة بيننا في وظائف الإعلام؛ أهي إنارة الرأي العام بالمعطيات كما هي أو كما تتوفّر من مصادر الخبر، أم أنّ للإعلاميّ الحقّ في الموقف وفي اختيار الأخبار التي تسير مع خطّه الفكري أو الخطّ التّحريري للمؤسسة، ويمكنه بالتالي عدم نشر أخبار قد لا تكون في صالح مؤسسته أو الحزب الذي يموّلها، وكثيرا ما أضرب له أمثلة من جريدة الضّمير أو من قناة الزيتونة الفضائيّة وانخراطهما التّام في تسويق مواقف النهضة قبل الحكم وبعده، وما هي خطورة التعويل على مواقع إخباريّة اشترتها الأحزاب أو  مواقع تعاني شبهة تمويلات داخليّة أو خارجيّة.

طبعا كنت أناقشه وأنا أعي خطورة الإعلام في توجيه الرّأي العام ولنا في مئات الآلاف من ضحايا النّازيّة أكبر دليل على خطورة العامل الإعلامي، فالموتى كانوا نتيجة الحرب الإعلاميّة التي قادها غوبلز، وكلّنا يذكر الآمال التي كان يغذّيها فينا ظهور " الصّحاف " في حرب الخليج الثانية، كنّا ننتظر ظهوره لأنّه يصنع رأي عام عربيّ ملتفّ حول العراق لا حول صدّام، كانا رجلين من رجال الإعلام، أحدهما قاد الحرب الإعلاميّة في بدايتها فأطلق صرخته الشهيرة" اكذب، اكذب حتى يصدّقك الكلّ". وأطلق الثاني  معجما اتّصاليّا عمدته الهجاء وما تزال كلمة " العلوج" ترنّ بآذاننا بعد عشرات السنين من حرب الخليج.

وتعرف تونس بعد الثورة ناطقين بأسماء الأحزاب أو الوزراء أو الحكومات أو الرؤساء، تفاوت أداؤهم، بين محترم لمجاله الإعلاميّ دون سفسطة وبين من عرفه التونسيّون متندّرين بقدرته على قول كلّ شيء بلا مناسبة قول أيّ شيء، ولعلّ آخر سقطات هؤلاء هو ما سمعناه من الناطق الرّسمي باسم الحكومة عند اندلاع الاحتجاجات بالقصرين وعدد مواطن الشّغل التي كذّبها وزير الماليّة.

الحقّ أنّ مسألة الضّمير الإعلاميّ هذه فيها أقوال كثيرة؛ فالضّمير يملي على هيبة الدولة أن يسكت وزير المالية، من باب التضامن الوزاري، وأن يجد منفذا آخر غير تكذيب النّاطق الرّسمي، وأذكر حكاية بورقيبة ومزالي من باب الاعتبار؛ فقد خطب مزالي أثناء ثورة الخبز، ووعد بزيادات لم تكن مبرمجة ووزير المالية لا علم له بها، وبّخ بورقيبة مزالي لكنّه أقرّها رغم الصّعوبات.

فشل جديد في الاتصال الحكومي؛ رئيس الحكومة يقول إنّ المرزوقي حرّ في أقواله حول الإمارات ووزارة الخارجية تنشر بيان استنكار لما ورد من اتهام للإمارات، فشل يدلّ أنّ القطيع سهل الانقياد دوما خاصّة إذا عرف الإعلام إعلاميين  يستهينون بالعملية التواصليّة ولا يستعدون لها استعدادا معرفيّا وتقنيا، أو أنّ مسألة شراء الذّمم والفضاءات الاتصاليّة أصبحت اليوم مسألة عاديّة تدخل في "الخبزة" و"اضرب ضربتك" و"الله ينصر من صْبَحْ "، عندها لا حديث عن الضّمير والأخلاق والضّوابط.

انقياد قد يستولي على مخازن الهيئات الاجتماعيّة، ويقتحم فرعا بنكيا، لكنّه كذلك يعتدي بالضرب المبرح على إعلاميين ساهموا في صناعة القطيع، قطيع قد يتوجّه إلى الإعلاميين ويومها سيعرفون نوع منتوجهم.