اعتذار لمنسوب الغباء
بقلم سعد برغل
كنت تحدّثت منذ سنتين مع طالبة بأحد أقسام الانسانيات، كانت تلك التونسية البهيّة نموذجا للفتاة التونسية المثقفة الواعيّة والباحثة عن إجابات مقنعة لما يحصل بتونس في عهد الترويكا من اغتيالات سياسية وذبح لجنودنا و تهديد للسلامة البدنيّة للأشخاص والقصاص على الهويّة لا غير.
كنّا تحدّثنا كثيرا عن الوضع العام بالبلاد، وكنّا نلقي اللّوم كلّ مرّة على الترويكا ووزرائها، ونقول إنّ انعدام الخبرة بالسياسة قد قاد البلاد إلى جحيم الإرهاب بفتح الفضاءات أمام الخيمات الدّعويّة وتوفّر جهاز كامل من الحقوقيين على استعداد، مهما كانت المناسبة، لرفع راية حقوق الانسان، فسرّح العدليّون آلافا من السّجناء عادوا بعد تأهيلهم فزرعوا الرّعب بالبلاد، وأغرقت الجماعة الإدارة التونسيّة بتعيينات الولاءات حتى سدّت عليها إمكانيّة التنفّس للتخمة البشريّة، وهو ما انعكس سلبا على مردوديّة الإدارة ومنع الحكومة من الانتداب، ومنعها بالتالي من تحقيق أهمّ شعار من شعارات الثورة ، وهو شعار التشغيليّة.
كنت قد تحدّثنا كثيرا عن الحلول العاجلة لإنقاذ تونس ممّا تردّت فيه باسم العناد من مريدي الإسلام السياسي بمختلف مشتقّاته، كنّا نستغرب من حملات التكفير المعلنة وشيطنة كلّ اليسار الرافض لهيمنة أبناء الغنوشي، كنّا نخشى من وقوع أسوأ ممّا وقع من اغتيال لشكري بلعيد ولمحمد البراهمي، كنت مهوسا بما وقع بالجزائر مع إخوان الجزائر ومتابعا لحالات التفجير بقندهار ومتابعا للسنة المُفجّرة للشيعة بالعراق، ومهتمّا بالشيعة المفجّرة للسنّة بلبنان، وكنت قلقا من "غزوات بوكو حرام" ومن فتاوى الفضائيات الخليجيّة المستبيحة لكلّ الدمّ، وكنت أتحدّث مع طالبتي، في وثوق اليسار الغبيّ، وأكرّر على مسامعها" الإسلام السياسيّ هو سبب البليّة" وإيّاك وتصديق حكاية الإسلام السياسي المعتدل، فمن يدّعي الوسطيّة والاعتدال كفّر التونسيّين أو بعضهم، والتسجيلات موجودة، والدّليل على أنّ حكاية الاسلام السياسي المعتدل خرافة إعلاميّة هو ما حصل هذه الأيّام للمفكّر الدكتور يوسف الصدّيق مع "المجلس الإسلامي الأعلى" وتشبيهه بسلمان رشدي، ومن نعته بهذه الشناعة لم يقرأ ربع ما كتب الصدّيق ولم ينشر ما نشر عن الإسلام.
المهمّ أنّا، أنا وسائلتي، كنّا نرى مستقبل تونس في حلّها السّحري الذي سيقطع دابر الإرهاب، وسيمكّن الشّباب من أحلامه، وسيعيد لتونس إشعاعها الدولي بعد شطحات المؤقت رئيسا وعالم الجغرافيا التونسية وزير خارجيته، كنّا نرى الأمن بتونس قد استعاد عافيته و"حمّر عينيه"، وتجاوزنا ما جنت علينا حلول ثورجيّة ارتجالية تتعلّق بالداخليّة من إحالة على التقاعد المبكّر أو حلّ بعض الأسلاك أو تسريح بعض الكوادر بشطحات حقوقيّة لا علميّة فيها ولا دراسة، كنّا نرى أفق البلاد يمرّ عبر فتحة تهوئة واحدة عمدتها إبعاد الإسلام السياسيّ عن ساحة القرار.
المهمّ، رحل من السياسيّين من رحل، وحملت وجوه حقائبها، وعادت إلى باريس ولندن وقطر، وبقي الجنديّ مرابطا بالشعانبي يحرس ليلاً نجومَ الوطن، ويدفن في النهار قتلاه، وأضحى الكمين إثر الكمين، رحل من رحل من الساسة الذين جرّبوا في رؤوس أبناء البلد، وبقي الأمنيّون يرابطون بالمقرّات ليلا ويحترقون نهارا بنيران الاعتداءات عليهم، ورحل من السياسيّين من رحل، وتشكّلت بالبلاد بارونات جديدة: بارونات قادرة على اللغة، فتحوّلنا من شيطنة إلى تضامن ومن إقصاء بالقانون إلى "الوطن للجميع"، ومن "النهضة سبب البليّة" إلى النهضة شريك فعليّ في البناء، وتحوّل ذاك اليسار من الصياح" النهضة فرع الإخوان بتونس" إلى نهضة تتونست ، لكنّ الأمور تراجعت، تراجعت مردوية العمل، تراجعت نسب النجاح، تراجعت كميات إنتاج الحوض المنجمي، تراجعت نسبة حضور الموظّفين بمقرّاتهم، تقلْصت نسبة نزول الأمطار، تقلّص عدد السياح والليالي المقضّاة، تقلّصت قيمة العملة التونسيّة، تقلّص عدد المشاريع، تقلّص عدد الأحزاب كذلك، تقلّص كل شيء، تناقص، انخفض، تراجع، تقهقر كلّ شي بالبلاد التي كان السيّاح إلى زمن يرونها جنة الخضرة على أرض الله الواسعة.
تراجع كلّ شيء بالبلاد إلاّ منسوب الغباء إذ مازلنا نصدّق الساسة، وتضاعف الإرهاب، فمن حادثة اغتيال إلى ثلاث، ومن قتْل لجنودنا إلى قتل لسوّاحنا، ومن قتل لسوّاح إلى مضاعفة قتل السوّاح، ومن بعض المنتحرين الانتحاريين إلى كتائب انتحاريّين، ومن بعض شباب يتدرّب بدرنة إلى آلاف يتدرّبون، فشكرا لكلّ من باعنا الوهم وعشّش بقرطاج، وأوهمنا وأناخ راحلته بالقصبة، شكرا مع اعتذاري لطالبتي.
