رمضانيّات بلا فاكهة

بقلم سعد برغل

لكن ليلة البارحة كانت استثنائيّة، فقد استأذنني شيخ للجلوس إلى طاولتي، بدأ بالنّقرعلى الطّاولة وإحداث أصوات متناغمة من عكّازه، كنت لا أعرف الشيخ معرفة عميقة، كلّ ما أعرف عنه أنّه نزح منذ مدّة من أحد الأرياف المتاخمة لمدينة المكنين، وجرت بعض الأخبار عن سَكَنه بمنزل على ملك أحد أقاربه المغتربين، طبعا لم تفت الأخبار أن تتضمّن حكاية خيانة واستيلاء على الأملاك وتشريدا للشّيخ، كلّ ذلك كان من باب ما تناثر من منهجيّة المقاهي التّونسيّة" اسْمَعْتِش؟".

المهمّ أني لم أجالس هذا الشيخ لوحدنا، كنت أسمعه يتحدّث مع الزبائن أو النّدّل، كان ذا صوت عميق واثق، عارف بما يقول، كوّنت صورة عنه من خلال السمع فقط، أمّا الأخبار التي دارت حوله فلا تعنيني، من فصيلة الشيوخ الذين هم في طور الانقراض، سمعته مرّات، وكلّ مرّة كنت أسأل " ما الذي جرى لشيخ بهذه القوّة حتى يترك ريفه وينتقل إلى مدينة لا يعرف من هوائها شيئا ولا تحمل ذاكرته وشما أو أحبابا"؟.

قرّر الشيخ بعد صمت طويل نسبيّا أن يفاتحني بالسؤّال التالي: أستاذ، تِتْفرّج في رمضان على التلفزة"؟، اعتدلت في جلستي لآخذ بعض الوقت للتّفكير، فقد باغتني السّؤال، ولا أعرف هل يقصد الشّيخ مسلسلات العنف باسم المقدّس وفتوحات المسلمين الذين غطّوا شاشاتنا دما بعد أن قتلوا من قتلوا باسم نشر العقيدة حتى لا يعرف الصغير من أبنائنا اليوم شاعرا عربيّا ويعرف الكثير من أبطال مسلسلات الفتح التي لا تبتعد مشاهد تقتيلها كثيرا عن مشاهد الرّعب الدّاعشيّة، فنكوّن منذ الصّغر جيلا اسلاميّا متآلفا مع الدمّ باسم المقدّس.
لم أفهم سؤال الشيخ، ولذلك ذهب ظنّي أنه متابع للمسلسلات التي يُقال إنها دينيّة وتزدهر في رمضان، لكنّي ملت إلى رأي آخر؛ ماذا لو كان الشّيخ يسأل عن النسخة الجديدة من "نسيبتي العزيزة" التي، والحقّ يُقال، إنها نزلت هذه المرّة إلى سفاسف لا تضحك وإلى إيحاءات جنسيّة مباشرة مسطّحة لا نفس شاعريّ فيها وتخلو من كلّ لون إبداعيّ، وعلى يونس الفارحي أن يُنقذ صورته قبل أن تسقط سقوطا مريعا، فصورة البدوي والريفي الأهؤل والأحمق قد ولّت و خمسون سنة من استثمار الضّحك على المرأة الريفيّة للباسها ولكنتها ولهجتها ماعادش "يوكّل خبز"، وحتى الاستعانة بتوفيق الجبالي لم يكن حلاّ موفّقا، فماذا أضاف الجبالي إلى المشهد العام؟ خاصّة أنّه يؤدّي دوره في مسلسل "نسيبتي العزيزة"  

بروح سليمان لبيض حركات ومواقف وتعليقات وتقاسيم وجه، فالمادة الكوميديّة بالمسلسل غابت تماما وراح الفارحي يكرّر مواقف سابقة  مثل احضار حمار أو سوّاح أو خطبة.

كان عليّ أن أتجنّب إحراج الشّيخ، فربّما يسألني عن مسلسل " أولاد مفيدة"، وما صاحبه من صورة للوشم بظهور الشبّان التونسيّين وللسرقات والخطف والمخدّرات والعصابات المدينيّة ومنظومة قيم تقوم على الضرب والسرقة ونسف العلاقات الاجتماعيّة السويّة، ولعلّ مشاهده تصلح ببلاد أخرى لا ينخرها الجوع والبطالة والاعتصامات والإضرابات وشعب لا يجد ما به يطعم أفواه صغاره، مسلسل المال الوفير والجمال الاصطناعي والانحطاط اللغويّ،  قلت في سرّي، وأنا أتذكّر نُتَفا من  لكمات الابن لأبيه والزّوج لزوجته والصّاحب لصاحبه، لا أتصوّر الشيخ يتلهّى بمتابعة مثل هذه المسلسلات فحتى اللغة ليست واحدة ومواضيع الشيخ لا علاقة لها بسريالية كاتب الحلقات والمخرج وصاحب الأفكار كلّها.

كان عليّ أن أجيب الشيخ، فمن العيب ألاّ أجيب، خاصّة أنّه لا ثالث لنا بالطاولة، فعيب أن أواصل الصّمت، تنحنحت، ونظرت إليه وسألته  "كيفاش، اشبيها التّلفزة"؟ ، كنت ألقي السّؤال، وأتمنّى لو أفرحني بالقول لا شيء، أو طرح سؤالا عن اليمن وباكستان وبوكو حرام والسلفيّة الجهادية وتعقيدات اليونان، فهي مسائل أسهل على الفهم من الدراما التونسيّة برمضان.

اعتدل الشّيخ بدوره، وقال" سألتك ياوليدي تتفرجش على التلفزة في رمضان، أنا شْريت من زمان فيديوهات متاع أم تراكي، وحكايات العروي، ومع كلّ شقّان فطر نخدّم الفيديو ونتمتّع بالمسلسلات التونسيّة، ولا فرنك ولا خرّوبة".